فصل: باب: البَيعَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


أَبْوَابُ سُتْرَةِ المُصَلِّي

باب‏:‏ سُتْرَةُ الإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلفَه

وهذا لفظُ حديث أخرجه ابن ماجه وإسناده ساقط، ولذا لم يومىء إلى كونِه حديثًا وهذا من رفعةِ شأنهِ وعلوِّ كَعْبِهِ حيث لا يَلْتَفِت إلى أمثال هذه الأحاديث، وهو مذهبُ الجمهور، ومذهب مالك أَنَّ سُتْرَة الإِمام سترة له خاصة، وهو بنفسهِ سُترة للقومِ، وليست سُترته سُترة للقوم، فلو مَرَّ مار بين الإِمام وسُتْرَتِه فهو غير مارّ أمام القَومِ عنده، لكون الإِمام سُتْرَة لهم‏.‏

ثم ليُعْلَم أنَّ هذا الحديث أيضًا يُنْبِىءُ على أَنَّ صلاةَ الجماعةِ صلاة واحدة بالعدد، لا أَنَّها صلوات بعدد مَنْ فيها، ولذا اكتفي فيه بسُتْرَة واحدة، ولو كانت تلك صلوات لاحتاج كُلُّ مَنْ فيها إلى سُتْرَة سترة‏؟‏ مع أَنَّ الأحاديث فيها وَرَدَت عامة أعني بدون تَعَرُّض إلى حال الجماعةِ أو الاِنْفِرَادِ، فَهَلا حَملُوها على العموم‏؟‏ ولِمَ لم يقووا بوجوب السُّتْرَة لكل‏؟‏ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلّم «لا صلاةَ إلا بخطبة»‏.‏ فَلِمَ لم يوجبوا الخُطبة على رجل رجل‏؟‏ فكان المناسِب لهم أَنْ يَقِيسوا عليه قوله صلى الله عليه وسلّم «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏؟‏» وشرحوه بمثله‏.‏

والحاصل‏:‏ أَنَّ الشريعةَ جعلت صلاةَ الجماعةِ نوعًا متغَأَيِرًا لصلاةِ المنفرد، وأقامت لكُلَ منهما بابًا، وحينئذٍ إجراءُ أحكامِ نوع على نوع منازعة بالشَّارع، ورفع صوت فوق صوته وافتيات عليه، ألا تَرَى أنَّه نَهَى عن البيع بما ليس عندك، ثُمَّ أقام للسَّلَم بابًا على حِدَة، فهل يُسَوَّغ لك أن تُخْرِجه من بابه وتُجْرِه تحت أحاديث النَّهي وتقُول بحرمتِه فكذلك صلاة الجماعة أَقَامَ لها صاحب الشَّرع بابًا مستقِلا وساقَ له مثل حديث‏:‏ «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتم به» ثُمَّ لَمْ يَأمر فيه بالقِرَاءة للمُقْتَدي مع كونِها رُكْنًا ومع تعرضِه فيه إلى أمور أهون منها، بل صَحَّ فيه «إذا قرأ فأنصتوا»، ولكِنَّ الذين رَسَخَ في بواطِنهم عموم «لا صلاة‏.‏‏.‏‏.‏» الخ يُرجِّحون العموم على الخصوص، ويُجرون على نوع غيرَ حكمه، ويخلطون بين الأبواب فلا يأتونَها مِنْ حيث أُمِرُوا بإِتيانِها، نعم، وحبُّك الشيءَ يُعمي ويُصِمُّ، فحال صلاةَ الشافعية كحال بني إسرائيل حيث كانوا منفردين في حال الاجتماع أيضًا، ولم يكن فيها تضمن وصلاتنا مبنية على التضمن كما أخبرَ به النَّبي صلى الله عليه وسلّم «الإِمام ضامن»، وواحدة بالعدد كما أحبَّها النَّبي صلى الله عليه وسلّم على لفظ أبي داود، لقد أعجبني أَنْ تكون صلاة المؤمنين أو المسلمين واحدة فسمعنا وأطعنا، ووضعناه على الرَّأسِ والعين بلا كذب ومَيْن، وراجع لتفصيله رسالتي «فصل الخطاب» وقد مَرَّ البحث‏.‏

ثم إنَّ البخاري والبيهقي اختلفا في شرحه، فَذَهَب البخاري إلى إثبات السُّتْرَة، والبيهقي إلى نفيه، وإليه مال الحافظُ رحمه الله‏.‏

قلتُ‏:‏ وما ذَهَب إليه البخاري أرجح وقد بيَّنَّا وجهه في العِلْم‏.‏

494- قوله‏:‏ ‏(‏حَرْبَة‏)‏ رُمْح صغير‏.‏

494- قوله‏:‏ ‏(‏فيُصَلِّي إليها‏)‏ أي قريبًا منها‏.‏

494- قوله‏:‏ ‏(‏فمن ثم اتخذها الأمراء‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ لأنَّ الإِمام في السلف يكون هو الأمير‏.‏

قال الشيخُ ابنُ الهمام رحمه الله‏:‏ إنَّ السُتْرَة لربط الخَيَال وحَصْرِه، فإِنَّ الإِنسان مجبولٌ على أَنَّ خَيَاله يَنْبَسِط ويَطوف بكلِّ جانب إذا كان في مكان وَسيع، وحيثُ يكونُ المكان ضيقًا يَنْقَبِض هناك، وينقبِض حتى لا يَبْقَى له جَوَلان وتَطْوَاف فيما وراءه، فإِذا أَرَاد الشَّارعُ أن لا يجول خَيَاله بكلِّ جانبٍ وأَن يَمْقُلَ بين يديه كما يَنْبَغي له أمره بالسُّتْرَة لذلك‏.‏

قلت‏:‏ والذي وَضَح لدي أَنَّها لقصر وَصْلَه المناجاة صونًا لها عن القطع، فإِنَّ المُصلِّي يُناجي رَبَّهُ ويواجهه كما أخرج أبو داود عن سَهْل في باب الدنو من السُّتْرَة‏:‏ «إذا صلَّى أحدُكم إلى سُتْرَة فليدن منها لا يقطع الشيطانُ عليه صلاتَه»‏.‏ فتلك المناجاة والمواجهة قائمة بينه وبين القِبلة ما دام يُصلِّي، فإِنَّ رَبَّهُ بينه وبين القِبْلَة، ولذا حَكَم الشَّرع على المارِّ أَنَّه شيطان لأنَّه مَرَّ بين العبدِ ومولاه، فأَرَاد أَنْ يَحْصُر تلك المواجهة لئلا يَضِيق الطريق على المارين، فَنَهَى المصلِّي أَنْ يُصلِّي في حاقِّ الطريق، وإذا صَلَّى في غَيْرِ الطريق أمره أَنْ يَغْرِزَ سُتْرَة وأَمَر المارَّ أَنْ لا يَمُر بين يَدَي سُتْرَة ولكن يَمُر وراءها، وهدَّده وحذَّره ووعَّدَه، فلو مَرَّ بعد هذه التمهيدات أيضًا لم يكن إلا شَيْطَانًا مَقْصُوده الحيلولة بَيْنَه وبين رَبِّه، وقَطْع تلك الوَصْلَة التي قامت في الصَّلاة وهو عند أبي داود عن أبي سعيد الخُدْرِي مرفوعًا قال‏:‏ «من استطاع منكم أَنْ لا يَحُول بَينَه وبين قِبْلَته أحد فليفعل»‏.‏ وعلى هذا لا أَتأوَّل في أحاديث القَطْع وأَحْمِلها على ظاهرها‏.‏

وأقول‏:‏ إنَّ المرأةَ والكلب والحمار كلها تقطع الصَّلاة، أي تلك الوَصْلَة، وهذا كما إذا جَرَى بيْنَكَ وبين أَحدٍ محادثة، فلو قَعَدَ رجلٌ في الوسطِ تراه أنَّه قَطَع كلامَك ومحادثَتك فهو أيضًا نوع من القَطْع أيضًا بدون تأويل ولا بُعْدَ فيه، فإِنَّ الشَّرِيعة قد تُخْبِر عن الغائِبات بما تَرَاه ولا نراه فأخبرت بإقامة الوَصْلَة، وكذلك أَخْبرَت بقطْعِها عند المرور، فما لنا أَنْ ننكِره أو نُؤوِّل فيه؛ نعم هذا قَطْعٌ على عُرْفِه وطَرِيقه، وإنْ لم يُسَمِّه الفقهاء قطعًا اصطلاحهم، فإن أحكامَهم تتعلق بعالم الشَّهادة وتلك الوصلة مِنْ عالم الغيب، وكذا الاستواء على العرش، والمعية، وقربه تعالى، كلها من باب واحد عندي، لا نُدْرِك كيفياتِها في غير أن نقول بتشبيه أو تجسيم كما يقوله الزائغون، فكما أَنَّ تلك الأشياء كلها على ظاهرها بدونِ تأويل عند الأئمة الأربعة، كذلك هذه المواجهة ووصلةِ المناجاة عندي‏.‏

والتحقيق عندي‏:‏ أنَّها كلُّها تجليات من الله سبحانه وقد قلت فيه‏:‏

رأيتُ بليلةٍ ظلماءَ نورًا *** على ألوانِ أطْوَارِ الخَلِيقَهْ

تجلى في صفاتِ الكونِ شَتَى *** وتلك مله زجاجاتٍ رقيقَهْ

كمِشكاة ترى المِصْبَاح فيها *** وذلك في زجاجاتٍ أنيقَهْ

فَحَيَّز ناظري رُؤيَاه حتى *** عَبرَت مِنَ المجازِ إلى الحقيقَهْ

عبارات ومعنىً ليس إلا *** وكلُّ الكون قد وسِعَت دَقِيقَهْ

ومَنْ قصد النِّهاية في مداه *** رَأى كلَّ الورَى عبرَ الطريقَهْ

وسيجيء البحث على معنى التَّجَلِّي بما يكفي ويشفي إنْ شاء الله تعالى‏.‏

ثم إنَّ تلك الوَصْلَة لمَّا كانت مِنْ عالمَ الغيب لا يكون قطعه إلا فيه، ولا يكون محسوسًا، وهو مَحْمَل حديث ‏:‏ «أَفْطَرَ الحاجمُ والمَحْجُوم »، عندي أعني به إفطار حقيقة الصَّوم بدونِ تأويلٍ في نظر الشَّرْعِ، وإِنْ لم يَكُن إفسادًا في نظر الفقيه‏.‏ فمن احْتَجم فقد أَفْطَر في نظر الغيب وإنْ بقي صائمًا في نظر الفقيه لما مَرَّ مني من قَبْل، أَنَّ الطَّهارة وإِنْ لمْ تكن شَرِيطة في الصيام لكنَّه لا شَكَّ في كونِها مطلوبة، فإِذا انْتَقَضَت بخروج الدم وانتقصت، انتقض صومه وانتقص، فكان إفطارًا عند الشَّريعة في الجملة، وإِنْ زَعَم أَنَّه صائمٌ ولا سيما إذ كان الصيامُ تحصيلا للتَّقْوَى وتشبهًا بالملائِكة، فإِنَّهم يتنفرون عن الدِّماء في غايته، ولذا قالوا‏:‏ ‏{‏وَيَسْفِكُ الدِّمَآء‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 30‏)‏‏.‏ فذكروا من نقائِصه ما يُوجِب نقيصة في عالَمِهم وهو معنى قوله‏:‏ «من أصبح جنبًا فلا صوم له»‏.‏ فإِنَّ الجنابَة قدحت في صَوْمِه وأدخلت فيه نقيصَة، والملائكة لا يدخلون بيتًا فيه جُنب‏.‏

وأمّا قول عائشة رضي الله عنها‏:‏ «عدلتمونا بالكلب والحمار»‏.‏ فيبنى على عَدَمِ القَطْعِ الحسي كما هو نَظَرُ الفقيه، وقد مَرَّ مني غير مرة أَنَّ التَعارُضَ بين الأحاديث قد يكونُ قصديًا يعني به الاطلاع على مراتب الشيء، وقد يُرَادُ به التنبيه على اختلاف العوالِم والأَنْظَار، فَترِد عليك الأحاديث في قَطْعِ المرأة الصَّلاة، وترد عليك أَنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانت تكون تعترض في قِبلَتِه اعتراض الجِنَازة وهو يُصلِّي، وكذلك يَرِد عليك أَنَّ مَنِ احتجَمَ فقد أَفْطَر، ويَرِد عليك أَنَّه احتجم وهو صائم، وهكذا يُروى لك «من أصبح جُنبًا فلا صوم له»، ويُنقل أنَّه أصبح صائمًا وهو جنب مِنْ غيرِ احتلام، وذلك لأنَّه قد عنى في بعض هذه الرِّوايات حكم هذه الأشياء في عالم الغيب، وفي بعض آخر حكمها في عالم الشَّهادة‏.‏ وقد مَرَّ منا أَنَّه لا يجبُ توافق الحكم بين العالَمين‏.‏

ثم إِنَّ أحمد رضي الله عنه جزم بقَطْع الصَّلاةِ مِنَ الكلبِ الأسود، ووقع هذا القيد في الرِّوايات أيضًا، وروى‏:‏ أنَّه شيطان‏.‏ ولعلَّ فيه معنى الإِيذاء وغيره‏.‏ ما ليس في غيره، وهكذا سمعنا من الراقيين أَنَّهم يطلبون الكلب الأسود، وسمعنا أَنَّ الجِنَّ يظهرون ويتشكلون بشكل الكلب الأسود، وإنَّما جزم بالقَطْعِ فيه لأنَّه لم تَرِد فيه مادة في الجانبِ المُخَالِف، وتردد في قطع الحمار لأنَّه رُوِيَ فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنَّه جاء على أتان، كما مَرَّ الآن ولم يَقْطَع ذلك صلاته، ولذا قال فلم ينكر ذلك عَليَّ‏.‏

وكذلك تردد في المرأةِ لأنَّه ثبت اعتراض عائشة رضي الله عنها بين يَدَيه وهو يُصلِّي، أمَّا الكلب فلم يَرِدَ فيه شيء بخلافِه فَجَزَم به‏.‏

قلت‏:‏ وفي «الدر المنثور» أنَّ هؤلاءِ الثَّلاثةِ لا يُسَبِّحون، وروى في حديث صحيح الاستعاذة عند نَهِيقِ الحمار، فهؤلاء كالميت غافلون عن الذِّكْرِ فاعتراضُها حال الصَّلاة التي هي الذِّكْر الأكْبَر عُدَّ قاطعًا لها، ولذكر الله أكبر‏.‏ ولعلك عَلِمْتَ مِنْ هذا البحث أَنَّ السُّتْرَة يجب أَنْ يكون واجبًا وهو مذهب الشافعي رحمه الله واستحبه الحنفية‏.‏

قلت‏:‏ كيف وَوَرَدَ الوعيد في تَرْكِها فليتَ الحنفية اعتبروها أزيد مما في كتبهم‏.‏ ولا يخفى أَنَّ الراوي قد يَتَعَرَّض إلى الخُصُوص لتردد فيه، فيُرِيد أَنْ يُشْهَرَ أمرُهُ ويُنوَّهُ ذكره كما فعل ههنا، فلعلَّ النَّاسَ تهاونوا فيها فأَرَاد بتعرُّضِه إليها أَنْ يَهْتَم بها النَّاس وهكذا فَعَله ابنُ عمر رضي الله عنهما في رفع اليدين، فَتَعرَّض في حديثهِ إلى الرَّفع في الموضِعين خاصة، وتَعرَّض إلى نفيهِ في السُّجود خاصة، وخَصَّصَهُ بالذِّكْرِ مِنْ سائِر أَفْعَال الصَّلاة، فَدَلَّ على أَنَّ في مض لمطمعًا، والشافعيةُ غفلوا عنه أو تَغَافلوا فإِنَّ الحديثَ يَضُرهم مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لدلالته على أَنَّ أَمْرَ الرفعِ صار خاملا في زَمَنِه إلى أَنِ احتاج إلى إِثباتِه وتأكيدهِ وتَشْهِيرهِ، وإلا فَمنْ يَتَعرَّض إلى أمر مُسَلَّم بين النَّاس، فذقه أنت فإِنْ كان الأمرُ كذلِك فمن أخمله إلا الصحابة رضي الله عنهم، وهل كان إذ ذاك غيرهم فانْظُر ماذا ترى‏.‏

495- قوله‏:‏ ‏(‏الظُّهرَ رَكعتين والعَصْرَ رَكعتين‏)‏ لا دليلَ فيه على الجمع أصلا، لأنَّ الراوي جَمَعَ بينهما في الذِّكْرِ فقط، كما يجمع بل أشراط الساعة، فيذكرها بالواو ويقول‏:‏ يكون كذا وكذا مثلا‏.‏ فيزعم الجاهل الغبي أَنَّ الوَقَائِع كلها تَتْرَى مع أَنَّها قَدْ تَكُون بينَها المئات مِنَ السِّنين‏.‏

باب‏:‏ قَدْرِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَينَ المُصَلَّى وَالسُّتْرَة

باب‏:‏ الصَّلاةِ إِلَى الحَرْبَة

باب‏:‏ الصَّلاةِ إِلَى العَنَزَة

قال الفقهاء‏:‏ يُسْتَحب أَنْ يَدْنوَ منها ما استطاع لئلا يَضِيق الطريق على المارين‏.‏ وعند أبي داود ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمُد له صمْدًا‏.‏

496- قوله‏:‏ ‏(‏وكان بين مُصَلَّى رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم قال الحافظُ رضي الله عنه أي مقامه في صلاتِه يعني به موضِع القدَمين‏.‏

قلتُ‏:‏ بل المرادُ به مَوْضِعُ سجودِه وإلا لا يَبْقَى بينَه وبين القِبْلَة فُسْحَة لسجوده‏.‏

497- قوله‏:‏ ‏(‏كان جدارُ المسجدِ عند المنبر‏:‏ وإنَّما تَعَرَّض فيه إلى ذِكْرِ المنبر، لأنَّه معلوم مِنْ عَمَل الأمه أنها تُصَلِّي في يسار المنبر، فليقدر الفاصلة مما بين المنبر وجدار القِبْلة‏.‏ وفي «الوفاء» للسَّمْهُودي أَنَّ وضع المنبر كان منحرفًا ولم أعرف السر فيه وقد يخطر بالبال أَنَّه رَاعَى فيه جهة القِبْلَة، فكره أَنْ يستدْبِرَها عند الخُطْبَةِ وغيرِها، فَوَضَعَهُ منحرفًا عن جِهَتِها لهذا والله تعالى أعلم‏.‏

وفي إسناده مكي بن إبراهيم وهو اسم راوٍ وليست نسبته إلى شيء، وهو تلميذُ أبي حنيفةَ رحمه الله وأَظنُّ أنَّه حنفي أيضًا وأكثر ثلاثيات البخاري بإسنادِهِ‏.‏

باب‏:‏ السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيرِهَا

قال الطَّحاوي في مشكِله إِنَّه لا بأْسَ بمرورِ الطَّائِفين أَمَامَ المُصَلِّي عند البيت لأنَّ الطَّواف بالبيتِ صلاة، ولا تُوجَد تلك المسألة في المذاهب الأربعة إلا عند الطَّحاوي‏.‏ وهذا الباب ناظرٌ إليها إلا أَنَّ الصَّلاة في الحديث كانت على نحو ميل من مكة، ومسألة الطَّحاوي في داخل المسجد‏.‏ وكانت تلك المسألة مهمة فَتَعَرَّض لها المصنِّف رحمه الله تعالى وترجم عليها‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ إِلَى الأُسْطُوَانَة

قوله‏:‏ ‏(‏صلِّ إليها‏)‏ يعني صلِّ إلى الأُسْطُوَانَة جاعلا إياها سُتْرَة، ولا تُصَلِّ في البين‏.‏ وكان النَّبي صلى الله عليه وسلّم يُصلي إلى أُسْطُوَانتِه في اعتكافِه، واستفيدَ منه أنَّ الصَّلاةَ إلى الأُسْطوانةِ مطلوبة من المنفرِد لئلا يَتَحَرَّج بها المارُّون‏.‏ وفي «مِعْرَاج الدِّرَاية شرح الهداية»- وهو غير مطبوع ‏:‏ أَكْرَهُ للإِمام أنْ يقوم بين السَّارِيَتَيْنِ‏.‏ ونَقَل الشوكاني عن أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى في «النيل»‏:‏ أَنَّ المُنْفَرِد يُصَلِّي بين السَّارِيَتَيْن بلا كَرَاهة، والمقْتَدون إِنْ كانوا اثنين فقيامُهما بين السَّارِيَتَيْن مَكْروهٌ أيضًا وإلا لا، لكونهم أذن صفًا‏.‏ ولعل التفقه فيه أَنَّ الاثنين قِطعة مِنَ الصَّف فلم انفردا عنه، وأَمَّا الثلاث فما فوقَه فصفُّ مستَقِل فلا يُكْرَه ولم أَجِدْ هذه المسألة إلا في كتاب الشوكاني ولم يَكْتُب أَنَّه مِنْ أين أخذها، وأقول بعد التَّجرِبة أَنَّ مَذْهَبَ الحنفية ليس محققًا عند الشوكاني فلا أعتبر به‏.‏ ولا أَعْتَمِد عليه في نَقْلِ مذهبنا إلا أَنَّ الوجدان يحكُم ههنا، أَنَّ المسألةَ تكونُ كَذلِك والله تعالى أعلم‏.‏

502- قوله‏:‏ ‏(‏التي عند المُصْحَف‏)‏ قال الحافظُ رحمه الله تعالى‏:‏ إِنَّها أُسْطُوَانة مخلقة‏.‏ ورد عليه السَّمْهُودي وقال‏:‏ والتي عندَ المصحف غيرها‏.‏

ثُمَّ إنَّ الراوي يعلمها بأمارات حدثت في زَمَنِ عثمان رضي الله عنه لا أَنَّها كانت في زَمَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم

502- قوله‏:‏ ‏(‏قال فإِني رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّم ولولا مِثْل هذه الوقائِع الضمنِيَّة لنفيت ثبوت النافلةِ عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم في المسجد‏.‏

503- قوله‏:‏ ‏(‏يبتدرون السَّوَاري عند المَغْرِب‏)‏ وتلك الصَّلاة مستَحَبَّة عند الشافعية، ومباحة عند أبي حنيفة ومالك، كما قَرَّرَ ابنُ الهمام رحمهم الله تعالى‏.‏

وحاصله‏:‏ أَنَّها تُرِكَ العمل بها ولم يقررها أحد كما قررها الشيخ رحمه الله تعالى فليراجعه‏.‏ وعن أحمد رحمه الله تعالى في «العيني»‏:‏ ما صَلَّيتها إلا مرةً حين بلغني الحديث‏.‏ وكان هذا من دَأَبِ بَعْضِ المحدِّثين أنَّهم كانوا يَعْمَلون بحديث يَبْلغهم مرة خروجًا عن عُهْدَته، وعند الحافظِ رحمه الله تعالى ما صلَّيتها إلا مرة حتى بلغني الحديث، مكان حين، فانقلت منه المراد، وهو غلط من الناسخ، والصحيح كما نَقَلَهُ العيني فليُتنبه‏.‏ ولعلَّ في «البدائع» أو كتاب الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى‏:‏ أنَّ أحمد رحمه الله تعالى سُئِل عنهما فلم يهتم بشأنهما، وقال‏:‏ انْقَطَع بهما العَمَل، فدلَّ أَنَّ الصَّواب كما في العيني، وما في نسخة الحافظ رحمه الله تعالى سَهْوٌ‏.‏

وفي الخَارِج أَنَّ الأنْصار كانوا يُصَلُّونها بخلافِ المُهاجرين، وعند أبي داود عن ابنِ عمر رضي الله عنهما ما يدل على خُمولها في الصدر الأَوَّل، وفيه «ورخص في الرَّكعتين بعد العصر» ومرجع الضمير عندي ابنُ عمر رضي الله عنهما دون النَّبي صلى الله عليه وسلّم ثم في إسنادِهِ محمد بن جعفر‏.‏

قلت‏:‏ وهو غُنْدَر وقد تَحصَّل الفِقْهَ بمطالعة كُتُبِ زفر رحمه الله تعالى، وكان زُفر رحمه الله تعالى، ذهب إلى البَصْرَة لحاجةٍ له فأصرَّ عليه النَّاس أَن يقيم بها، فتوفي هناك ولم يدركه غُنْدَر، فَحصَّل الفِقَه من كُتُبِه، ثم إنَّ أهلَ البَصْرَة كانوا سَاخِطين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فكان محمد بن جعفر يُلقي على النَّاس ويَذْكُر مسائله، لا يذكر اسم أبي حنيفة حتى إذا مدح النَّاس على مسائِله أَفْصَح باسمِهِ وقال‏:‏ إنَّها هي مسائل أبي حنيفة، فسكت عليه الناس هكذا ذَكَرَهُ الطَّحاوي‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ بَينَ السَّوَارِي فِي غَيرِ جَمَاعَة

وقد مَرَّت المسألة عَنْ قريب أنَّه يجوز للمنفرد وإنْ كان المطلوبُ منه أَنْ يُصلِّي إلى الأُسْطُوانَة، أَمَّا المقْتَدُون فَعن ابنِ مسعود رضي الله عنه‏:‏ أَنَّهما إِنْ كان اثنان فلا بأس، وكرِه للواحد‏.‏ وكأَنَّ الاثْنين صفٌّ فلم يَعْبَأ بتخللِ السَّوارِي، بخلافِ ما إذا كان واحدًا، فإنَّه يُوجِب تخللها في صفَ واحدٍ، وذلك مناقضٌ لمعنى الصفِّ صورةً ومعنىً‏.‏

تنبيه‏:‏ ونَسَبَ النَّووي إلى الحنفية أنَّ اليمينَ تنعقِد عندهم بالَّلاتِ والعُزَّى، وهو غَلَطٌ فاحشٌ وليس في أحد مِنْ كُتبنا، ومَنْشَأ غلطه ما في كتبنا لو قال‏:‏ إن فَعَلْتُ كذا فأنا يهودي انعقد يمينه، ثُمَّ إن تَعَمدَهُ بالرضاء كفر أيضًا‏.‏

باب

506- قوله‏:‏ ‏(‏يكونُ بينَهُ وبين الجِدَارِ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ وفيه أَنَّ الفاصلة كانت بثلاثَةِ أَذْرُع، وفي الحديث المارِّ أَنَّها كانت بمَمَرِّ الشَّاة، والوجه أَنَّه أَرَادَ فيما مرَّ بيان الفاصلة إذا كان إمامًا، أمَّا ههنا فإنَّه كان منفردًا‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْل

والمرادُ به ههنا بيان مسألة السُتْرَة، وأمَّا ذِكْرُ البعير‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، فاحتراسٌ، وتتميمٌ، وكان بوب عليه في الأنجاس مرَّة لبيانِ الفَرْقِ بين الإبْلِ الواحد والعَطَن، فالبعير إذا كان واحدًا في سَفَرِه وأَمِنَ منه لا يكون في معنى العَطَن حيث يكون فيه الأنْجَاس مع كَثْرَةِ الإبل فَيَسْطُو بعضه على بعضٍ ويُخَافُ منه الإِيذاء، إلى غيرِ ذلك مِنَ المعاني‏.‏

تَرْجَم ههنا لبيان السُّتْرَة فقط لا للفَرْق المذكور، ثُمَّ مِنَ العجائبِ ما كتبه ابنُ خَالَوَيه في كتابه المسمَّى ب‏:‏ «ليس» أَنَّ البعيرَ في لغةِ العرب بمعنَى الحمار أيضًا‏.‏

507- قوله‏:‏ ‏(‏آخِرَتِه‏)‏ ونَقَّح الحنفيةُ مناطَه فقالوا‏:‏ إنَّ كلَّ شيءٍ بقَدْرِ الذِّراع في غَلْظِ الأُصْبَعِ لَيَصْلُح للسُّتْرَة، أما الخط عند فقدانها ففي «الهداية» أنَّه غير معتبر، وفي «الفتح» عن صاحِبَيْهِ أَنَّه معتبرٌ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وهو الذي يَليقُ به العمل، لحديثٍ فيه عند أبي دَاوُد، وإن كان مضطربًا عند عامة المحدِّثين، فإنَّه رُويَ عن أحمد أنَّه قابِل للعمل، والخطُ يكونُ بشَكْلِ الهِلال، ولعله مانعٌ عن مُرور الشيطان كما نشاهده عن الراقين عند رَقْيِهم بمن صَرَعه الجِنُّ يَخُطُّون حوله خَطًّا ويُسمُّونَه الحِصَار، لأنَّ الجِنَّ يحصر به ولا يستطيع أَنْ يَخْرُج منه، كما فَعَلَه النَّبي صلى الله عليه وسلّم مع ابنِ مسعود رضي الله عنه في ليلة الجِنِّ، ثُمَّ إنَّ قولَه‏:‏ إلى آخرتِهِ، يَدُل على أنَّ الغَرْزَ ليس بِشَرْطٍ ويكْفي له الوَضْعُ أيضًا‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ إِلَى السَّرِير

وفي نُسْخَة على السَّرِير وثَبَتَ السرير- بمعنى جارياني- في السِّيَر‏:‏ وكان نَسْجُه مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ والحبال، ولذا حملت عليه، وإن كان السَّرِير تطلق على تخت عندهم أيضًا، فالنُّسخة إن كانت «بعلى» فالمسألة فيه جواز الصَّلاةِ فَوْقَ السَّرِيرِ، وقد مَرَّ مني أنَّها تجوز مطلقًا، لأنَّ الشَّرْطَ في السُّجود هو الإلقاءِ والطَّرْح، وذا يَحْصُل عليه بخلاف القُطْن، فإِنَّه لا يحصُل فيه الإِلقاء، بل يَحْتَاج إلى استمساكِ الرَّأْسِ فلا يَزَال يَخْسِف بهِ، وإِنْ كانت «إلى» فالمسألة فيه مسألة السُّتْرَة ويكون الحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلّم جعل السرير سترة وحينئذ تكون أمامه خشبته المعروضة دون القائمة، فإِنْ صَلَّى إلى قَائِمَتِهِ فهو ظاهرٌ‏.‏

508- أما قوله‏:‏ ‏(‏فيتوسطُ السرير‏)‏ فالظَّاهِر منه أَنَّه صلَّى على الأَرْضِ متوجِهًا إلى وسطه، وعليه تَرِدُ الألفاظ وإن صلح لغة على أنَّه صلَّى فَوْقَ السرير في وسطه‏.‏

508- قوله‏:‏ ‏(‏فأَكْرَهُ أَنْ أُسَنَّحَهُ‏)‏- يعني آرى آجاؤل- واعْلَم أَنَّ مسألةَ المرورِ في الفقه فيما إذا مرَّ أمامَهُ من جانبٍ إلى جانبٍ، ولا تفصيلِ فيه فيما إذا كان قاعدًا فصلَّى خلفَهُ رجلٌ هل يَنْسَل أم لا‏؟‏

قلت‏:‏ فليعمل بهذا الحديث ولا شك أَنَّ الانسلال أَفْيَد، وهو الخُروج من التَّخْت خُفْيَة، والسُنُوح أَقْرَب من المرور فلذا كانت تكرهه، والمرادُ من السُنُوح أن تواجهه بشخصِها- يعني ميرا شخص سامني آجائي ‏.‏

ثم إنَّ المُصلِّي إاذ كان في الصحراء جاز له المرور أمامه فيما وراء موضِع سجوده عند فَخْر الإِسلام واعتبر الشيخ رحمه الله تعالى موضِعَ نظره فلا يجوز له المرورُ فيه‏.‏ أمَّا إذا كان في المسجد الكبير فيجوز له المرور، وإِنْ كان صغيرًا فلا، والكبير عندي ما كان في أربعين ذِرَاعًا‏.‏ وراجع المسائل من الفقه‏.‏ وفي حاشية «العناية» للشيخ سعد الدين‏:‏ أَنَّه لو أَسْبَلَ غشاوة من السَّقْف كفاه للسُّتْرَة‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا فَمن كان لا بدَّ أَن يَمُرَّ بين يدي المُصلِّي فَلْسُسْبِلْ منديله أمامَهُ ثُمَّ ليمر، ولعلَّهُ يكون أَيْسر له مِن مرورِه كما هو‏.‏

باب‏:‏ يَرُدُّ المُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَينَ يَدَيه

وفي فِقْهنا‏:‏ أَنَّه يرده بجهر آية فإِنْ كانت الصَّلاة جهرية يَرْفَعُ بها صوتَه أَزْيَدَ من قراءتِه، وإِنْ كانت سِرِّية ففيها ثلاث أقوال لمشايِخنا، قيل‏:‏ تَجِبُ سجدة السَّهْو بجهر كلمة، وقيل‏:‏ بما زاد على الآية، وقيل‏:‏ بآية‏.‏

قلت‏:‏ يَجُوزُ الجهرُ بآية في الصَّلاةِ السِرِّية لِمَا ثَبَتَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم وله أَنْ يَدْفَعه بالتسبيحِ أيضًا‏.‏ ثُمَّ إِنَّ ابنَ دقيق العيد ذكر تفصيلا فيه لا أَذْكُره خوفًا من تهاونِ النَّاس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قاتله‏)‏ وهو عندنا محمولٌ على مزيدِ الكرَاهةِ والتقبيح في القلب دون القِتال حسًا، وحَمَلَهُ الشافعية على ظاهره، فَجَوَّزُوا الدرء بالعملِ أيضًا ويُدرأ عندنا بما مَرَّ، وَذَكَر القِتال في سياق المُبَالغة فقط، وكَتَبَ النَّووي تَحْتَه مسائل الدية، أَنَّ قَتْلَ المارِّ وهو عَجِيب لأنَّه ربما يَخْبِطُ النَّاظر فيظن أَنَّ الحديثَ ورد في القَتْل مع أَنَّه ليس بمراد، فكان الأولى أَنْ لا يَذْكُرها، وعلَّله في الحديث أنَّه شيطان‏.‏

قلت‏:‏ ومن يَسْنَح بينه وبين مولاه فإِنَّه شيطان ولا ريب‏.‏ ثم اعلم أَنَّ الشيطان من عالَمِ الأرواح أعني به أَنَّ له بَدنٌ مثالي يَتَصرف في الأجساد كتصرف الجِنّ، فكما أَنَّ الجنَّ يركب الإِنسان ويصرعه، ثُمَّ يتكلم بلسانه كذلك يَفْعَل الشيطان أيضًا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور فأمكن، أن يركب على إنسان ويمر به أمام المُصَلِّي‏.‏

باب‏:‏ إِثْمِ المَارِّ بَينَ يَدَيِ المُصَلِّي

وفي مُسْنَد البزَّار أربعين سَنَة بالجزم، وفي حديث آخر مئة سنة كذا نَقَله الحافظ رحمه الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَهُوَ يُصَلِّي

وهل الاستقبال منحصرٌ في المواجهة أو هو أَوْسَع منه، ولعلَّ أهلَ اللُّغة يُخصصونَهُ بالمواجَهة‏.‏ ثُمَّ الاستقبال المذكور مكروه عندنا مطلقًا بدون تَفْصيل الاشتغال وعَدَمِه، وفَرَّقَ المصنِّف بالاشتغالِ وعَدَمِه‏.‏

وحاصل تراجم المصنِّف رحمه الله تعالى‏:‏ أنَّه لا يَقْطَع الصَّلاةَ شيء كما سيجيء مصرحًا، ولم يُبال بما يُروى في القَطْعِ بالمرورِ، ولذا لم يُخرج له حديثًا‏.‏ ولنا‏:‏ ما رُوِيَ عن ابنِ مسعود رضي الله عنه موقوفًا وهو مرفوع حُكْمًا‏:‏ أَنَّ مَنْ مَرَّ أَمامَ المُصَلِّي فقد قَطَعَ عليه نِصْفَ صَلاتِه‏.‏ وثَبَت منه أمران‏:‏ كون المارِّ قَاطِعًا مطلقًا، وكذا ثَبَتَ منه عدم بُطْلان صلاتِه‏.‏ واضطرب الشارحون في أَنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى مِنْ أَي لفظٍ أَخَذَ ترجمَتَه فقالوا مِنْ قِولِه‏:‏ ‏(‏وأنا مُضْطجِعَة‏)‏ ثم تَحيَّرُوا فيه فإِنَّها لا تُؤْخَذ منه‏.‏

قلت‏:‏ بل هي مأخوذة مِنْ قوله‏:‏ «وأكره أَنْ أستقبله» ففيه كراهة الاستقبالِ صراحةً، ثُمَّ إِنَّ قولها‏:‏ وأنا مضْطَجِعَة على السرير» صريحٌ في أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم كان على الأرضِ، وقد مَرَّ مني التفتيش فيه في ذيل شرح لفظ «فيتوسط السرير»‏.‏

103- باب الصَّلاةِ خَلفَ النَّائِمِ

وهي مكروهة إذا كان يَخْشى منه اللغط وإلا لا، ولعلَّها كانت مأمونة عنه فانْدَفَعت الكراهة‏.‏

512- قوله‏:‏ ‏(‏على فِرَاشِه‏)‏ وهذا يشير إلى كَونِها على الأرض‏.‏

512- قوله‏:‏ ‏(‏فإِذا أرَادَ أَنْ يوتر‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ ولهذا أقول إنَّ عائشة رضي الله عنها ممن يُفَرِّق بين الوتر وصلاة الليل، بخلاف ابنِ عمر رضي الله عنهما فإِنَّه يُطْلق الوتر على جميع صلاة الليل، ثُمَّ الحديث دلَّ على تأكُّد أمر الوتر، بخلاف صلاةِ الليلِ، ولذا أَيْقَظَها النَّبي صلى الله عليه وسلّم للوتر دون صلاةِ الليل‏.‏

باب‏:‏ التَّطَوُّعِ خَلفَ المَرْأَة

513- قوله‏:‏ ‏(‏فإِذا سجد غَمَزني‏)‏ وفي النَّسائي لفظ صريح في أَنَّ مسه كان بدون حائلٍ، فأفادَ الحنفية في مسألة النَّواقض‏.‏

باب‏:‏ مَنْ قَالَ‏:‏ لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شَيء

أَي مِنْ فعلِ غير المُصَلِّي لمرورهِ أَمَامه ولا يريد أَنَّه لا يقطعها شيء ولو كان مِنَ المُصَلِّي، وقد عَلِمْتَ من عاداتِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّ رجحانِه قَدْ يكون إلى جانب ولا يريد الإِفصاح به، فيضع هناك لفظ «من» كأنَّه يعزوه إلى قائل مُبْهم، ولا يَتكفل به قوله‏:‏ «وإني على سرير»‏.‏‏.‏‏.‏ الخ وعدَّه المصنِّف رحمه الله تعالى مِنْ جِنْس المرور ولمَّا كان هذا النَّوع مِنَ المرور غير قاطع، عُلم أَنَّه لا يَقْطَع الصَّلاة شيء وهذا أيضًا مِنْ عاداتِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّه إذا اختار جانبًا ذَهَب يهدر جانبًا آخر كأنَّه لم يرد فيه شيء، قلنا كَيْفَ وقد صَحَّ فيه أحاديث عند مُسْلِم وأبي داود مِنْ أَنَّ الحمار والمرأة والكلب قاطعٌ للصَّلاةِ بأي معنىً كان، وإنَّما يَثْبُت خلافه إذا ثَبَت في حديث أَنَّ تلك الأشياء الثلاثة لا تَقْطَع الصَّلاة، فإِنْ أَرَاد بالقَطْعِ القطعَ فقهًا فمن أَنْكَره، ونحن أيضًا نقول‏:‏ إنَّها لا تقطع بمعنى أَنَّها لا توجِب البطلان، أما إنَّها لا تقطع أصلا فلا نقول به‏.‏

1106- باب إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلاةِ

باب‏:‏ إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِض

وتدخل فيه مسألتان‏:‏ الأولى‏:‏ مسألة الحمل‏.‏ والثانية‏:‏ مسألة ثياب الصبي‏.‏ أَمَّا الحمل فإِنْ كان بالإِشارة فهو عَمَلٌ قليل كما في عالمكيرية، وإِنْ كان الاستمْسَاك فهو عملٌ كثير وفي الخارج أَنَّه كان يُشير بها بالنُّزول عند الركوع ولا بد، فَعَبَّر الراوي عن تَعلقُها بنفسِها، وعَنْ إشارتِه إيَّاها أنَّه صلَّى وهو حاملٌ لها، وإذا رَكَع وضعها، وما للرُّواة وللأنظار الفقهية فهذا توسع لا غير‏.‏

قلت‏:‏ فأين ذهب رفع اليدين‏؟‏ وإنَّما فَعَلَ النبي كذلك وهو في الصَّلاة بيانًا للجواز وهو التَّعليم الفطري، وهو ما يكون في ضمن الأفعال، أما ما يكونُ باللسانِ كما ترى اليوم فهو طريق مستحدثٌ مجعول، فكما أَنَّ الأبناءَ يتعلمون حوائِجَهم عن أوضاع آبائِهِم كذلك الأُمَّة تتعلم دينَها مِنْ نبيها‏.‏

وأمَّا المسألة الثانية‏:‏ فقد مَرَّ عن الشيخ ابنِ الهُمام أَنَّ العِبرة فيه بحملِه، فإنْ كان الصبي بحيث يتعلق بنفسه ولا يحتاج إلى حمله، لا تنسب تلك الثياب إليه ولا تُعِد حاملا إياها وإلا نسبت إليه، ويُعدُّ وتفسد صلاته‏.‏ وفي «المُنية» إذا كان الحصير كبيرًا وأحد جوانِبِه نجس لا بأس بالصَّلاة عليه في الموضع الآخر‏.‏ وفي إسناده حفص وأنَّه رأى أبا حنيفة رحمه الله تعالى وهو من تَلامذةِ أبي يوسف رحمه الله تعالى، وعبد الواحد بن زياد أيضًا أرى له علاقة مع أبي حنيفة لما عند الدَّارقطني عند اختتامه عنه أنَّه يقول‏:‏ عن أبا حنيفة رضي الله عنه عن تصدق مال خبيث ومن أين أخذه قال من حديث عاصم بن وفيه أنه دعي إلى لحم شاة ذبحت بغير إذن أهلها فأمره أن يطعمه المساكين‏.‏

باب‏:‏ هَل يَغْمِزُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عِنْدَ السُّجُودِ لِكَي يَسْجُدَ‏؟‏

ولا عجب إنْ كان يُشير إلى عدم نَقْضِ مسِّ المرأة‏.‏

باب‏:‏ المَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ المُصَلِّي شَيئًا مِنَ الأَذَى

وقد تَرْجَم به مرَّة مِنْ قَبْل لييان صحة الصَّلاةِ وفسادِها، والمقْصُود بيان مسألة المرأةِ، وعليك أنَّ تُفَرِّق في مثل هذا التَّكرار‏.‏

520- قوله‏:‏ ‏(‏إلى فَرْثِها ودمِها وسَلاها‏)‏ هذا صريحٌ في نجاسة السلا فبطل التأويل المشهور وقد مرَّ منا كلام عليه‏.‏

520- قوله‏:‏ ‏(‏اللهم عليك بقريش‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ قال الدِّمياطي‏:‏ إنَّه أَوَّل دعاء دعا به النبي صلى الله عليه وسلّم على الكفار‏.‏

كتاب‏:‏ مواقيت الصلاة

واعلم أَنَّ حديث إمَامة جبريل عليه السَّلام أساس الأحاديث في بابِ الأَوقاتِ وإن لم يخرجه الشيخان، لكن في حديثِ البابِ إيماء إليه فَحَصلت له نوعُ رِفعة، فلنشرح أَوَّلا ألفاظَه ثُمَّ لنعرِّج على مباحثِه‏.‏

باب‏:‏ مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ وَفَضْلِهَا

521- قوله‏:‏ ‏(‏أَخَّرَ الصَّلاةَ يومًا‏)‏ وعند البخاري في بدءِ الخلق‏:‏ «أخر العصر شيئًا» وعند أبي داود «كان قاعدًا على المنبر»‏.‏ فقوله‏:‏ «يومًا دَلَّ على أنَّه لم يَكُن إذ ذاك أمير المؤمنين‏.‏

521- قوله‏:‏ ‏(‏أنَّ جبريل نَزَل‏)‏ وفي رواية للشافعي رحمه الله تعالى أَنَّه أَمَّهُ عند المقام تلقاء الباب، وهذا يَرد على مَنْ قال إن قِبلتَه صلى الله عليه وسلّم في مكة كانت بيت المقدس، وإنَّما أَبْهم الأمر لأنَّه كان يُصلي مستقبلا بهما وذاك لأنَّه لا يُمكنه استقبالَ بيت المقدس فيما قلنا‏.‏ وفي «سيرة محمد بن اسحق» أَنَّه نَزَلَ عند زوال الشمس ولذا سُميت بالأولى فتصدى الناس إلى بيان النكتة في نزوله في الظهر دون الفجر، فقيل‏:‏ إنه كان نائمًا صبيحة الإِسراء فلم يحب جبرئيل عليه السلام إيقاظَه، وهو غلط ومنشأه الخلط بين السفرين في الليلتين ليلة التَعْرِيس وليلة الإِسراء، وإنَّما نام النَّبي صلى الله عليه وسلّم في الأول دون الثاني، فما كان وقع في ليلة التعريس نقلوه في ليلة الإِسراء بمجرد اشتراك كونهما في الليل، ولا حاجة إلى بيان النُّكتة على ما حققتُ سابقًا من ادعاء فرضية الصلاتين قبل الإِسراء أيضًا، واتفق الكُل على أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم كان يُصليهما قبل الإِسراء، وإنَّما تكلموا في صفتِهما هل كانت فريضةً أو تطوعًا‏.‏

فذهب جماعة إلى فرضيتهما وهو الذي أختارُه، والأصلُ أَنَّهما صلاتان كانتا على بني إسرائيل كما هو عند النَّسائي فبقيتا على أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلّم وصلاهما النَّبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه حتى صارت خمسًا، وقد ذَكَرهما القرآن في غير واحدة مِنَ الآيات، وقد تُذْكَر معهما صلاة الليل أيضًا، وهي أيضًا من الابتداء ولم تنسخ بتمامها أصلا، وإنَّما غيَّر في صفتها وبقيت منها الوتر كما سيجيء تقريره، وحَمْلُها على الصلوات الخمس غير مرضي عندي، والوجه فيها‏:‏ أَنَّ تلك الآيات كانت فيما لم تَكُن فريضة إلا هاتان ولا أجد فَرْقًا في صفة أدائهما قبل الإِسراء وبعده، فقد رُوِيَ في الصحيحين‏:‏ أنَّه صلى بأصْحابه الفجر بالنَّخْلَة حين ذَهَبَ عامدًا إلى عُكاظ واستمع له الجِنّ، وفيه أنَّه جَهَرَ بالقراءةِ فثبتت الجماعةُ والجهرُ أيضًا، وهذه شاكلتها بعد الإِسراء أيضًا، فما الدليل على أنها كانت نافلةً‏؟‏ ومِنْ هذا التحقيق خرج غير واحدة مِنَ الآيات من التأويل وهي التي ذُكِرت فيها الصَّلاتان فقط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 39‏)‏ فلا حاجة إلى إدخالِ الصَّلاةِ الخمس فيها‏.‏

وما وقع عند الدَّارقطني أنَّه نزل في الصبح فهو أيضًا وَهْمٌ عندي، والتبسَ عليه تَعْليم النَّبي صلى الله عليه وسلّم أعرابيًا في المدينة بتعليم جبريل إيَّاه في مكة، وكانت أَوَّل صلاة صلَّى به صلى الله عليه وسلّم هي الفجر، قال ابن كثير‏:‏ صلاتُه صلى الله عليه وسلّم في بيت المقدس ذاهبًا كانت تحية المسجد، وآيبًا كانت الفجر‏.‏

521- قوله‏:‏ ‏(‏صَلَّى فَصَلَّى‏)‏ وفي غير صحيح البخاري أَنَّ جبريل عليه السَّلام صَلَّى به مرتين، وما في هذه الرواية يدل على إمامته يومًا فقط، فإِما أَن يُقال إنَّ الرَّاوي اقتصرَ في تلك الرِّوايات، أَوْ يُقال إنَّ الفِعلَ مُطْلَق يَصدُق على مرة كما يصدُق على ألف مرة، فيُقال ضرب لمن ضرب مرة ولمن ضرب مرارًا كذا قاله سيبويه كما في «الجامع الكبير» للشيخ بَلْبَان الفارسي، ولذا قالوا‏:‏ إنَّ التثنية والجمع من خواص الاسم، وهو في الفعل لحال فاعله، وحينئذ تَنْدَرِج صلاة يوميه في فِعْلٍ واحدٍ، والرواية المُفَصَّلة عند أبي داود وفيها ذكر اليومين وصلاته فيهما مُفَصَّلة، وفي آخرِها «ثم لم يُسْفِر بعد» وتكلَّم المُحدَّثون في الجملة الأخيرَة وإن ثبَتَت فالأمر أيضًا سهل‏.‏

ثمَّ قيل‏:‏ إنَّ الفاء في قوله‏:‏ «فصلَّى» لبيان صلاتِه في عمره، يعني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم صلَّى فيم بعد كما كان جبريل عليه السَّلام علمه، وقيل‏:‏ بل هي لبيان التعقيب بين أجزاء الصَّلاةِ بحسب الإِمامة والاقتداء‏.‏ وقد مَرَّ مني أنَّ الفاء قد تَدْخُل الأمرين المتَعاقِبين ذاتًا وإن كانا متقارنين زمانًا، فلا يخالف مسألةَ الحنفية في مقارَنَة الأَفْعَال بين الإِمام والمقتدي، وليس في أحدٍ من طُرُقِه تفصيل الأوقات إلا في رواية عند أبي داود، وعلله المحدِّثون أيضًا، نعم في حديثِ إِمَامةِ جبريل عليه السَّلام الذي شير إليه في هذا الحديث تفصيل ذلك، وفي مراسيل أبي داود عن الزُّهري والحسن أنَّه صلَّى أربعًا‏.‏

قلت‏:‏ والمرسَلان معلولان لِمَا في البخاري أنَّ الصَّلاة قَبْلَ الهجرةِ كانت مَثْنَى مَثْنَى، وإنَّما قاسها الرَّاوي على الحالةِ الرَّاهِنة فذَكَرها أربعًا‏.‏

521- قوله‏:‏ ‏(‏اعلَمْ ما تُحَدِّثُ به‏)‏ يعني أَنَّك لستَ بصحابي فأْتِ بسنَدِهِ ولا تَرْوِ مرسلا هكذا قالوا‏:‏ والوجه عندي أَنَّ الاستبعاد على تعليمه فعلا، مع أنَّ التعليم القولي أيضًا كان كافيًا له، ولذا قال‏:‏ أو إِنَّ جبريل هو أقامَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلّم يعني حتى تَعَلَّمَ الصَّلاةَ مِنْ فِعلهِ، فأجابه عروة‏:‏ إني لا أَرْوِيه إلا بالإِسناد فَخُذْه مني فَذَكَره كما في الكتاب‏.‏

522- ‏(‏والشمسُ في حُجْرتِها‏)‏ دلَّ على تَعْجيلِ العصر، وأجاب عنه الطَّحاوي أَنَّ الجُدر كانت قصيرة فلم تكُن الشمس تخرج منها إلا قُبيل الغروب، وكان الطَّحاوي قاله في العصر، فنقله بعضهم في التغليس، وفَهِم أنَّ الطَّحاوي جعلَه وجهًا للتغليس‏.‏

وحاصله‏:‏ أَنَّ الصحابةَ إنَّما ذكروا التَّغْلِيس لِقَصر جُدْرَان مسجدِه فلم يكُنِ الضوء يَدْخله إلا بعد الإِسفار الشديد، ثم اعتُرِض عليه أنَّه تحميق لهم والعياذ بالله، وهذا كما ترى بناء الفاسد على الفاسد‏.‏

ثم إنَّ الخلافَ في تأخيرِ العصر في الاستحبابِ دونَ الجواز فَيُسْتَحب تَأْخِيرُها عندنا قَبْل ضَعْفِ الشمس وهو المُرادُ من الإِحمرار والإِصفرار، والتمكُّن مِنَ النَّظرِ إلى قُرص الشمس وانكسارِ الشعاع، فإِنَّ هذه أمور لا تَحْصُل إلا عند ضَعْفِها، فإِذا ضعفت اصفرت، ويُتمكَّن النَّظر إليها‏.‏ وفي «تحفة المحتاج» للشافعية رحمهم الله، أَنْ يُصلِّي العصر حين يَبْقى ربع النَّهَار أو خمسه‏.‏ وصرَّح الشامي منَّا في «شرح قِصة الدَّجال» والتقدير في يومِهِ الطويلِ للصلوات‏:‏ أنَّه يُصليها إذا بقي خمس النَّهار أو سدسه‏.‏ فلم يَبْق بين الإِمامين فَرْق كثير، ولكنَّ المشغوفون بالخلافِ يتعسر عليهم التقريب، فيجعلون الخلافَ على طرفي نَقيض فإِذا نُقَّحَ وحقَّق هان، لأنَّه لم يَبْقَ إلا بسدس النَّهار فتشكر‏.‏ وعند أبي داود في باب الجمعة مرفوعًا‏:‏ أنَّه قال يومُ الجمعةِ ثنتا عَشْرَةَ، يريد ساعة لا يُوجد مُسْلِمٌ يسأل الله شيئًا إلا أتاه الله عز وجل، فالتمسوها آخِرَ ساعةٍ بعد العصر‏.‏

وهذا الحديث وإِنْ لم يُسق لهذه المسألة عبارة لكنَّه دلَّ على أَنَّ التَّأْخِير مُسَلَّمٌ في ذهن المُتَكَلِّم حتى ينبع مِنْ أَطْرافِ كلامِه، ويُعلم منه كأنه مفروغ عنه عنده فكأنَّه أَدَّاهُ كالعلم الحُضوري لا يغيب عنه، كذلك التأخير بالعصرِ ههنا فإِنَّه مُتكلم في باب آخر، والتأخيرُ لا يَزال يَخْرج من عَرْضِ كلامِه كالعِلم الحضوري لا يذهل عنه، وعند الترمذي عن أم سَلَمة كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أشدَّ تعجيلا للظُّهر منكم، وأنتم أَشدُّ تعجيلا للعصر منه، وبوَّب عليه الترمذي بتأخيرِ العَصْرِ واستدل الإِمام محمد بما أخرجَهُ هو، وأخرجه الشيخان‏:‏ إنَّما أجلكم فيما خلا مِنَ الأُمم كما بين صلاةِ العصر إلى مَغْرِبِ الشمس، وفي الحديث «أنا والسَّاعة كهاتين»‏.‏

فدلَّ على أنَّ وَقْتَ أَمَّتِه أَقل قليل، فلا يكونُ مِنْ صلاةِ العَصرِ إلى الغُروبِ إلا وقتًا قليلا، وهو محمول على المبالغةِ، وإلا فهو دالٌّ على أزيد من التأخير الذي أَرَدْنَاهُ وسيأتي الكلام فيه‏.‏

الفائدة الأولى‏:‏ في ذِكْرِ الآيات التي فيها الإِيماء إلى الصَّلواتِ الخمس‏.‏ واعْلَم أَنَّ المفسرينَ تعرضوا إلى عد الآيات التي فيها إيماء إلى الصَّلواتِ الخمس، وهي عندي عدة آيات على ملاحظ مختلفة، واعتبارات شتى، فمنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسبحان ا حين تُمسون وحين تصبحون وله الحمدُ في السموات والأرض وعشيًا وحين تظهرون‏}‏ ‏(‏الروم‏:‏ 18‏)‏ ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ‏}‏ ‏(‏هود‏:‏ 114‏)‏ ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 78‏)‏ ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏}‏ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَرَ السُّجُودِ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 40‏)‏‏.‏

فَذَكَر الصَّلوات الخمس في الآية الأولى في أربعة ألفاظ، فبدأ أَوَّلا بِذِكْرِ طرفي النَّهار وهو الصَّباح والمَساء، فدخلت صلاة الفجر في قوله ‏{‏وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏، والمَغْرِب والعشاء في قوله ‏{‏وحين تمسون‏}‏ لأنَّ المساء صالحٌ للعشائين، أمَّا صلاة العصر والظهر فَذَكَرهما في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏ وذكرها في الآية الثانية في لفظين فقط أي طرفي النَّهار والزلف، وطرفا النَّهار هما نصفاه، فالصبحُ في نصف، والظهر والعصر في نصف آخر، أمَّا العشاءان فأدرجهما في الزُّلَف، وتمسك منها الحافظ مُغْلَطاي على وجوب الوتر، بأنَّ الزُّلَف صيغة جَمْع، وأقله الثلاث، فلا بد أَنْ تكونَ هناك صلاة ثالثة وهي الوتر، وقال الحافظُ رحمه الله إِنَّه تشديد من مُغْلَطاي وليس في الآيةِ ما يدلُّ عليه، ولم يِقْدِر على جوابه‏.‏

قلت‏:‏ الْحافظُ وإنْ عَجَزَ عن الجوابِ لكِنْ أقول أنا‏:‏ لا دليلَ في الآيةِ المذكورةِ على وجوب الوتر، أَمَّا جمعية الزُّلَف فهي باعتبارِ وقوع العشاء في هذه الحصة تارة، وتارةً في الحصةِ الأُخْرَى، فكانت باعتبار حِصَص الليل وساعاتِه من حيث تعجيلِ العشاء وتأخيره، فأخذها باعْتِبار أنواعِ الصَّلوات‏.‏

أما الآية الثالثة‏:‏ فهي على شَكِلَةِ حديث جبريل عليه السَّلام وبدأ فيها مِنَ الظُّهْرِ، ولف الأربع في قوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ‏}‏ وفَصَل منها الفجر وعدَّها مستقلة، وذلك لأنَّ أَوْقَات الأربع كانت مُسَلْسَلة مِنَ الدُّلُوك إلى الغرب بخلاف الفجر، لأنَّها في طَرَف، وبينهما وبين الظُّهْرِ وقتٌ مُهْمَلٌ جَعَلَهُ الله لِمَنْ فاتَتْهُ وظيفتهُ مِنَ الليلِ أن يؤديها فيه، فتحسب له كأنَّما قَرَأَها من الليل، وهو تأويلُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا الليل والنَّهار خِلْفَة لمن أرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أو أراد شكورًا‏}‏ ‏(‏الفرقان‏:‏ 62‏)‏ والخلافة حيث يخلف ما في النَّهار عمَّا في الليل، وتَعرَّض في الآية الرَّابعةِ عن وَقْتِ الصبحِ والعصر أيضًا، بكون إحداهما قَبْلَ طُلُوعِ الشمس، وأُخْرى قَبْلَ غُرُوبِها تنبيهًا على وقتَيْهِمَا‏.‏ وَذَكَرَ المَغْرِب والعِشَاء في قوله‏:‏ ‏{‏ءانَآء الَّيْلِ‏}‏ على شاكلة ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ‏}‏‏.‏ بقيت الظُّهر فَجَعَلَها في أطرافِ النَّهار، والجمعية ههنا كجمعية الآناء والزلف هناك، باعتبارِ وقوعِ الظُّهْرِ تارةً في أوَّل وقتها، وأُخْرَى في غيره، فهي أيضًا باعتبارِ السَّاعات‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّه حيث ثَنَّى الطَّرَف أَرَادَ به جَانِبيّ النَّهار وحيث ذَكَرَهُ بصيغةِ الجمع قَصَرَهُ على ساعاتِ الوقتِ، باعتبارِ وقوعِ الصَّلاةِ في أَجْزَائِها، لأنَّه لا يكونُ لشيء واحدٍ إلا طَرَفان، فلا تستقيمُ الجمعية إلا بأَخْذِها في الوقت‏.‏ ولَعَلك عَلِمْتَ أَنَّ مِصْدَاق تلك الآياتِ واحدٌ، وإِنَّما تَفَنَّنَ فيها في العبارات لمعانٍ وَملاحِظ، عليك أَنْ تتأملَ فيها حتى تَذُوقَ حلاوتَها‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏ واعلم أنَّ القرآن لم يَتَعرض إلى تعيين أوقات الصَّلوات غير الفجر والعصر، فحدَّد أواخِرَهما بطُلوعِ الشمس وغروبِها، وأَمَّا سائر أوقاتها فَتَرَكها على أسامِيها، كما ذَكَرَها الثَّعَالبي في «فقه اللغة» وراجع لها «شرح لأميةِ العجم» مِنْ قوله‏:‏

ولعلَّ مرادهما كراهة تَحرِّيها في ذلك الوقت، وليس مَذْهبًا لأحد أصلا، وإنَّما هو مِنْ ثَمَراتِ المبالغات، والشعف بالخلاف، كما قال بعض من الشافعية‏:‏ إن الوتر بالثلاث باطل‏.‏ وكذلك لم يَرِد في الأحاديث غير التقريب، ومَنْ حَمَلَها على غاية التَّحْدِيد، فقد تَكَلَّف بما لا يَقْدِر عليه هو، فإِذا لم تَقْدِر أنتَ على تَحْدِيدِ تلك الأوقات غير التقريب، فكيفَ ساغَ لك أَنْ تَحْمِل كلمات الرواة على أَنَّهم أرادوا به حق التعيين، أَلا تَرَى أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لم يَأْمُر الرَّجُلَ حين جاء يسأله عن أَوْقَاتِها إلا بِأَنْ يُصَلِّي مَعَهُ يومين ويُشَاهِدَ أوقات الصَّلوات بعينِه ولم يَكتَفِ بالتعلِيم القولي، وذلك لأنَّ تحدَيدِها لا يمكن بمجَرَّدِ القولِ، ولعلَّ جبريل عليه السَّلام أيضًا، نَزَلَ لهذا السو فصلَّى به، وعَلَّمَهُ أوقاتها عَمَلا، ولذا تَرَى الرُّواةَ يُحَدِّدُونَ الأوقات، تارةً بِذِكْرِ المَسَافَةِ وأُخْرَى بذِكْرِ ظِلالِ الأشياء، ثُمَّ قد يُبالِغُون فيه حَسَب داعية هناك، وقد يَذْكُرونها برؤية مواقع نَبْلِهم، وفي العصر أنَّ الشَّمْسَ كانت حية، فهل ترى تلك التعبيرات كلها تَنْزِل على التقريب الذي أَرَدْنَاه أو على التحديد الذي راموه‏.‏

ثُمَّ أي تحديدٍ في قوله‏:‏ وكان ظِلُّ الرَّجُل كطوله مَا لم تَحْضُر العصر، فأراد مِنْ أَوَّلِ كلامِهِ التحديد شيئًا ثُمَّ لم يَقْدِر فَعَدَل عنه إلى التقريب، فقال‏:‏ ما لم تَحْضُر العصر‏.‏

ولو أنَّ النَّاس فَهِمُوا هذه الدقيقة، لَمَا ضَرَبوا بَعْضَ الأحاديث على البعض، ولعَلِمُوا أَنَّ الدِّينَ أَبْقَى لهم فُسْحَة مِنْ عندِه وأَرَادَ أَنْ يُبْقي النَّاسَ في يُسر وكم مِنْ أشياء أَهمَلَها الشارع لذلك، ولا تسألوا عن أشياء إن تُبْد لكم تَسُؤْكُم‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏ واعلم أنَّه انعقَدَ الإِجماعُ على أَوَّل وَقْتِ الفجر وآخرها، وكذا في أَوَّلِ وقت الظُّهر، واختلفوا في آخرها، وتَعَدَّدَت فيهِ الرِّوايات عن الإِمام، ومِنْ ههنا اختلف في أَوَّل وقت العصر، واتفقوا في آخرِها، ولهذا اتفقوا في أوَّلِ وقت المَغْرِبِ، وإِنَّما لم يَخْتَلِفوا في الفَجْرِ في أَوَّلِها وآخِرها، لكونِه مُتَعينًا في الحسِّ بانْبِلاجِ الفَجرِ، وطُلوعِ الشَّمْسِ، وكَذا أَوَّل وَقْتِ الظُّهر، لأنَّه مِنْ حين الزَّوال وهو أيضًا مشاهد، وفي آخر وَقْتِ العَصْرِ وأَول المَغْرِب، لأنَّه أيضًا يَنْتَهي بأمرٍ مُشَاهَد‏.‏

واخْتَلفوا في آخِر المَغْرِب، وَأَوَّل العِشاء وآخرها شيئًا، ومُعْظَم اختلافِهم في آخرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وأَوَّل العصر وليس في سائرها إِلا نذر مِنَ الخِلاف‏.‏ فقال مالك رحمه الله تعالى‏:‏ بالاشتراك قَدْرَ أربع رَكَعَاتٍ بين آخر الظُّهْر وأَوَّل العصر، فَوَقْتُ العَصْرِ يَدْخُل عنْدَهُ بمصيرِ ظلِّ الشيء مثله، ولا يَخْرج وَقْتُ الظُّهر إلا بَعْدَ قَدْرِ أَرْبَع رَكَعَاتٍ، فقدر أَرْبَع ركعات مْشْتَرك يَصْلُح للظهر والعصر عنده، وإليه ذَهَب جماعةٌ وبعضٌ مِنَ الشافعية، إلا أنَّهم اختاروا أَدْنَى فاصلة بينهما بدونِ قولٍ بالاشتراك كأَنَّه وقتٌ مُهْمَلٌ عندَهُم‏.‏

ثُمَّ أكثر الشافعية رحمهم الله تعالى والجمهور إلى أَنَّه يَخْرُجُ وَقْتُ الظُّهْرِ بمصيرِ ظلِّ كل شيءٍ مثلَه ويَدْخل وَقْتُ العَصْر‏.‏

وأمَّا الإِمام الهُمام فظاهرُ الرواية عنه في المَشْهُور أَنَّ وَقْتَ الظُّهر لا يخرج إلى أَنْ يَصِيرَ الظلُّ مثلَيه ثُمَّ يَدْخُل وقت العصر وليت شِعْري مِنْ أَيْنَ جعلُوها ظاهر الرواية مَعَ أَنَّ آخِرَ وقْتِها لم يُذْكَر في «الجامع الصغير والكبير» ولا في «الزيادات» ولا في «المبسوط»، وصَرَّح السَّرْخَسي‏:‏ أَنَّ محمدًا لم يَتَعَرض إلى آخر وَقْتِ الظهر، وهو ظاهر «موطأه» حيث قال‏:‏ وأمَّا أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإِنَّه قال‏:‏ لا يَدْخُل وقتُ العَصْرِ حتى يَصِيرَ الظِّلُّ مثليه، ولم يَذْكُر آخر وقتِ الظهر عنه‏.‏ وفي «البدائع» أنَّ آخر وقْتِهِ لم يُذْكَر في ظاهر الرواية‏.‏ وكذا ليس ذكرهِ في «السِّيَرَ الكبير» ولم أرَ «السِّيَرَ الصغير» فإِذا خَلَتْ هذه الكُتب الستة عن ذِكْر آخر الوقت عُلِمَ أَنَّه لم يجىء في ظاهرِ الرِّواية، ولعلَّهُم أَرَادوا منه معناه اللُّغوي أي الرِّواية الظاهرة المشهورة على الألسنة دون التي في مُصْطَلَحِهم، والرِّواية الثانية عنه كَمَذْهَبِ الجمهور، وَنَقَلَ السيد أحمد الدَّحْلاني الشافعي رحمه الله تعالى رجوعَ الإِمامِ إلى هذه الرِّواية عن خِزَانة المفتين، والفَتَاوَى الظهرية وهما من المُعْتَبَرات،، وأما خِزَانة الرِّوايات فغير معْتَبَرة عندي، وفي عامةِ كُتُبِنَا أنَّها عن حسن بنِ زياد عن أبي حنيفةَ وجعلها في «المَبْسُوط» السَرْخسي عن محمد وبها أَفْتَى صاحب «الدُّر المختار»، ورَدَّ عليه ابنُ عابدين بأنَّها خِلافُ ظاهرِ الرِّواية فلا يُفْتَى بها، والأَرْجَح عندي ما اخْتَارَهُ صاحبُ «الدُّر المختار»، والثالثة‏:‏ أَنَّ وقَتَ الظُّهْرِ إلى المثل ولا يَدْخُل وقْتُ العَصْرِ إلا بعد المِثل الثالث، والمِثل الثاني مهملٌ، وهي رواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏.‏ والرابعة‏:‏ كما في «عمدة القاري» وصححها الكَرْخِي أنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ إلى أقل مِنْ قامتين ولا يَدْخُل وقْتُ العَصْرِ حتى يَصِير قامتين‏.‏

وبه قال مالك رحمه الله تعالى‏:‏ إلا أنَّه حَدَّدَ الوقتَ المُهْمَل بِقَدْرِ أَرْبَع رَكَعات، وَجَعَلَهُ مشتركًا، ثُمَّ جاء المالكية فافْتَرَقُوا في تفصيلِهِ على فِرقتين‏:‏ فقيل‏:‏ إن القَدْرَ المُسْتَثْنَى في آخر المِثل، وقيل‏:‏ بل مِنَ ابتداء المِثْل الثاني‏.‏

فإِذا حَقَّقْتَ الرِّوايات، فاعلم أَنَّ النَّاسَ جَعَلُوها روايات شتى، وهي تَنْحَط على مَحطَ واحدٍ، ومرجع الكُل عندي، أَنَّ المِثْل الأَوَّل وقتٌ مُخْتَصَرٌ بالظُّهْرِ، والمِثل الثالث بالعصر، والثاني يَصْلُح لهما، والمطلوبُ هو الفاصلةُ بينهما في العمل، فإِنْ عَجَّل الظُّهر فَصَلاها بعد الزَّوَال يُعَجِّل العصرَ ويصلِّيها على المِثل، وإِنْ أَخَّرَ الظُّهْرَ فصلاها على المِثل يُصلي العصر أيضًا مؤخِّرًا إبقاءً للفاصِلَة بينهما، فلا يُؤَخِّر الظهر مع تَعْجِيلِ العصر، لأنَّه رُبما يُوجِب الجَمْع مَعَ أَنَّ المطلوبَ هو الفاصلة، نعم تلك الفَاصِلة قد تَرْتَفِع لأَجْلِ السَّفر والمرض، فللمُسَافر أَنْ يَجْمَع بين الظُّهر والعصر في المثل الثاني‏.‏

وكَذَلِكَ جَازَ للمستحاضَة أَنْ تَغْتَسِل ثُمَّ تَجْمَعَ بينهما في غُسلٍ واحد، ومِنْ ههنا اندفعت الشُّبْهة العظيمة، أَنَّ خُروجَ الوقتِ أو دُخولَه لمَّا كان ناقضًا لطهارة المعذور عندنا كيف أمر المستحاضة أَنْ تَجْمَع بين الصَّلاتين في غُسل واحد، لأنَّه يُوجب عندنا أَنْ تكونَ صلاتُها الثَّانية في حالة الحَدَث‏.‏

والحل عندي‏:‏ أَنَّه أَمَرها بالجمع في الوقت الصَّالح لهما، ومسألة النقض بالخُروج أَوْ الدُّخول فيما خرج الوقت المختص، أو دَخَل الوقت المختص، أمَّا الوقت الصالح لهما فلا كَلامَ فيه وما أَخْرَجَه أبو داود في باب الاستحاضة‏.‏ والوضوء فيما بين ذلك، حمله بعض الأَعلامِ على ذلك وفَهموا أنَّ المرادَ به الوضوء فيما بين الصَّلاتين لانتقاضِ طهارتها بعد الصَّلاة الأُولى، وهو عندي للحَوائجِ الأُخر، يعني أَنَّه علَّمَها الغُسل لصَلاتِها، فإِنِ احتاجَت إلى غيرها لحمل المصحف، فإِنَّها تَكْتَفي بالوضوء فهذا الوضوء لحاجاتٍ تعتري لها فيما بين ذلك إذا انْتَقَضَتْ طهارتها، وكان تعليمه أيضًا مهمًا وهذا الذي وَعَدْنَاك في باب الاستحاضة في أَمْرِ طهارتِها، فإِنْ سَمَحَت به قريحتُك فهذا سبيلُ الجواب، وإلا كَفَاك رواية أبي داود على الشرح المشهور، ولا رَيْبَ أَنَّ اللفظَ يحتمله أيضًا‏.‏

أمَّا ما قلت إنَّ الرِّوايات كلها تشير إلى معنى واحد وكلها شطر للمراد فبأن الرواية الأولى تدل على أَنَّ المِثْل الثاني للظهر، وَدَلَّتِ الثانية على أَنَّه وقت للعصر أيضًا فلزم القول بالاشتراك‏.‏ وعُلِمَ أَنَّ المِثل الثاني صالح لهما، ولمَّا لم تَقَع العصر في المِثل الأَوَّل والظُّهر في المِثْل الثالث قَطْ لَزِمَ أَنَّ المِثل الأَوَّل وقتٌ مختصٌّ بالظُّهْرِ والثالث بالعصر بحيث لا تَصْلح إحداهما في وَقْتِ الأُخْرى، وأمَّا الرواية الثالثة مِنْ أَنَّ المِثل الثاني وَقْتٌ مُهْمَلٌ فلم تجيء لبيانِ مسألةِ الوقت بل لبيَانِ ما ينبغي في العمل، وهو الفاصلة بينهما، فينبغي ألا يصلِّيها جميعًا بل يَجْعل بينهما فاصلة، فإِن صَلَّى الظُّهْرَ في المِثل، عليه أَنْ يُصلِّي العصر في المثل الثالث، ويُهْمِل المِثل الثاني في البين؛ ومعنى الإِهمال إهماله عملا، وإِنْ كان في الحقيقة أَقرب إلى الظُّهْرِ لكنَّه إِنْ أَدْخَل فيه العصر تارةً يكون متحملا أيضًا‏.‏

وأما الرَّابعة فلبيانِ أنَّ تلك الفاصلة غير متَعيّنة، فيجوز أَنْ تكون بقَدْرِ المِثل الثاني، أو بما دونه كما أشير إليه بالرابعة، ولا استغراب في القولِ بالاشتراك، فإِنَّه ذهب إليه جماعةٌ من السَّلف كما في الطَّحاوي وهو مَذْهَبُ مالك رحمه الله تعالى ورواية عن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى، وهو الذي تُشْعِر به مسائلهم فإِنَّهم قالوا‏:‏ مَنْ طَهُرَت في آخر العصر يلزمها قضار الظُّهر أيضًا، وكذا مَنْ طَهُرَت في آخر العشاء تَقْضِي المَغْرِب أيضًا، ولولا الاشتراك لَما قالوا بقَضَاءِ الظُّهْر والمغرب بطهارتها في العصر والعشاء‏.‏

ونقل الحافظُ في «الفتح» عن ابنِ عباس وعبدِ الرحمن رضي الله عنهم مثلَه، فظهرَ الاشتراك شيئًا في سائر المذاهب‏.‏ لا يقال‏:‏ إنه يؤول إلى مذهب الشافعية رحمهم الله تعالى في الجَمْع بين الصَّلاتين، فإِنَّه وقتيٌّ عندهم، كذلكَ يكونُ الجمعُ عند الحنفية أيضًا وقتيًا على هذا التقدير‏.‏

قلتُ‏:‏ كلا، فإِنَّ الجمعَ الوقتي عندهم‏:‏ هو تقديم إِحدَى الوقتيتين في الوقت المخْتَص للأخرى، أو تأخيرُها إلى الوقتِ المُخْتَص بتلك؛ والحنفيةُ لا يقولون به، فلا يجوزُ العصر عندَهم في المثل الأَوَّل لا في السَّفرِ ولا في المطرِ، ولا يجوز الظُّهْرُ في المثل الثالث كذلك، فتفَارَقا‏.‏

فإِنْ قلت‏:‏ يُخَالف الاشتراكُ قولَه تعالى‏:‏ ‏{‏كتابًا موقوتًا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 103‏)‏ قلتُ‏:‏ وماذا فهِمْتَ مراده، وهل فيه توقيت بحسب ظنِّك، أو كما وقَّتَه النَّبي صلى الله عليه وسلّم فإِنْ كانت «موقوتًا» بمعنى أنَّه وقَّت لها سبحانه وقتًا وبينه رسولُه، فليراجع له إلى ما بينه النبي صلى الله عليه وسلّم فإِنْ كان بالاشتراك فهو موقوتٌ بالاشتراك، وإن كان بالافتراق فكذلك‏.‏

أمَّا مثل قوله صلى الله عليه وسلّم «وقت الظهر ما لم تحضر العصر» فهو أيضًا لا ينفي ما قلنا؛ فإِنَّ المراد به وقت الظهر المجموع، يعني مع الوقت المُخْتَص وغيره، ومن العصر وقته المُخْتَص، ثُمَّ إذا ظَهر اختلافٌ بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتحقق عندَك خِلافٌ بين الأئمةِ، فإِيّاك وأَنْ تَظُنَّ في هذه المواضع أَنَّ القرآن أَو الأحاديث في يد أحد الطرفين، فإِنَّ القرآن إذا لم يَحْتَمله والأحاديث خالَفته، كيف يَسُوغ لمِثل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومِنَ الأئمةِ مثل مالك رحمه الله تعالى أَنْ يقولَ بما ليس له أَثرٌ في الدِّين بل نصٌّ بخلافِه، فلو كان معنى الموقوت ما كنتَ تَظنُّه لَمَا ذهبَ إليه مالك رحمه الله تعالى وجماعةٌ مِنَ السَّلَف، فخفض عليك شأنَك، ولا تُسْرِع في ردِّ ما لم تَسمعهُ أُذُنَاك؛ فإِنَّه ليس من العِلم وإنَّ مِنَ العِلم لجهلا‏.‏

تنبيه‏:‏ واعلم أَنَّ السَّرَخْسي نبَّه على أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ ليس إلى المِثل فقط عند صاحبيه، بل يَبْقَى بعدَه شيئًا أيضًا فكان وَقْتُ الظُّهرِ عندهما مِثلا وشيئًا، لا كما هو المشهور عنهما، أَنَّه إذا صار المِثل فقد دَخَل وقتُ العصرِ وخرجَ وقتُ الظهر‏.‏ إذا أتقنت هذا، فاعلم أنَّ حديث جبريل لا يَصدُق إِذَن إلا على مذهب الحنفية، لأَنَّه ليس فيه إلا تَعْجِيل الصَّلوات كلِّها في اليوم الأول، وتأخير كلها في اليوم الآخر مع إبقاءِ الفَاصلة بينهما، فإِذا صَلَّى الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس صلَّى العصر على المِثل وعَجَّلَ فيها أيضًا، ثُمَّ إذا أَخَّرَ الظُّهْرَ في اليوم الثاني وصلاها في المِثل الثاني أَخَّر العصرَ أيضًا وصلاها بعد المثلين وهذا عينُ مذهبِ الحنفية على ما حققت‏.‏

وحديث جبريل صريحٌ في الاشتراك حيث صلَّى العصرَ في اليوم الأَوَّلِ حين صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه؛ وصلَّى الظُّهْرَ في اليوم الثاني في عين ذلك الوقت‏.‏ وعند الترمذي تصريح أنَّه صلَّى الظُّهْرَ في اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس، فلا مَناص عن القولِ بالاشتراك، ولذا قال به مالك رحمه الله تعالى، ثُمَّ إنَّه يُخالف الشافعي رحمه الله تعالى وغيرَه في أَنَّ وقتَ الظُّهرِ يَخْرجُ بالمِثل، لأنَّه صلاها اليوم الثاني بعد المِثل، فليس فيه ما رامُوه مِنْ كَوْنِ وقتِ الظُّهْرِ إلى المِثل ولذا أَوَّلَ فيه النَّووي بما أَوَّل فراجعه‏.‏

وفي الروايات‏:‏ أَنَّه نَزَل في اليوم الثاني بعد المِثل فعند النَّسائي‏:‏ «ثُمَّ أتاهُ اليوم الثاني حين كان ظلُّ الرَّجُل مِثل شخصه، فصنع مِثلَ ما صَنع بالأمسِ صلَّى الظُّهْرَ اليوم‏.‏‏.‏‏.‏» الخ‏.‏ وهذا صريحٌ في أَنَّه صلاها في اليومِ الثاني بعد المِثل، وهو وقتُ العصرِ عند الشافعيةِ رحمهم الله تعالى، ولا يَمْشِي فيه تأويل النَّووي‏.‏

«‏.‏‏.‏‏.‏ وصلَّى العصر في اليومِ الثاني حين كان ظِلُّه مثلَيه‏.‏‏.‏‏.‏ وهذا يَصْدُق لو كان صلاها قَبْلَ خَتم المِثل الثالث أيضًا، ولا بُدَّ من حَمْلهِ عليه كما سيجيء، وعادتُهم قد جرت بحذفِ الكسور‏.‏ فتحصَّل أنَّه صلَّى الظُّهر تارةً في المِثْل وهو وَقْتُها المُخْتَص وتارةً في المِثْل الثاني وهو الوقْتُ الصَّالح لها، وكذلك صلَّى العصرَ تارةً بعد المِثل الأوَّل، وهو وقتٌ صالحٌ لها أيضًا، وصلاها تارةً بعد المِثل الثاني قبل نهايةِ المِثل الثالث، وهو الوقتُ المُخْتَص بها مع إبقاء الفَاصِلة بين الصَّلاتين في اليومين، وهذا عينُ مذهبنَا ولله الحمد أَوَّلا وآخرًا‏.‏

ثم اعلم أَنَّ وقتَ العصرِ عند الشوافِعَ رحمهم الله تعالى على خمسة أنحاء‏.‏ قال النووي‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ للعصر خمسة أوقات‏:‏ وقتُ فضيلة، ووقتُ اختيار، وجوازٍ بلا كراهة، وجوازٍ مع كراهة، ووقتُ عذر‏.‏ أمَّا وقت الفضيلة‏:‏ فأَوَّل وقتِها، ووقتُ الاختيار يمتد إلى أَنْ يَصيرَ ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَيه، ووقت الجواز إلى الاصفرار، ووقت الجواز مع الكراهة‏:‏ حالة الاصفرار إلى الغُروب، ووقت العُذر‏:‏ هو وقت الظُّهْرِ في حق من يَجْمع بين الظُّهْرِ والعصر لسفرٍ أو مطرٍ، ويكونُ العصر في هذه الأوقاتِ الخمسة أداء، فإِذا فاتَتْ كلها بغروبِ الشمس صارت قضاءٍ‏.‏ انتهى‏.‏

وقسمه الحنفيةُ إلى قسمين‏:‏ وقتِ الاستحباب، ووقتِ الكراهة، وأرادوا من الاستحباب ما لا يكونُ مكروهًا، ومعلوم أَنَّ جبريل عليه السَّلام لم يَنْزِل لتَعْلِيم الوقت المكروه، فلم يستوعب في اليومين إلا الوقت المستَحب، فلو قلنا‏:‏ إنَّه صلَّى العصرِ في اليومِ الثاني في المِثلين، يَلْزَم أَنْ تَبْقَى مِنَ الوقت المستحب أيضًا حِصةٌ ما، ولذا قلت‏:‏ إنَّه صلاها فيه قُبَيل المِثل الثالث، ليُحاط الوقتُ المستَحب في يومَيه، فإِنَّ المِثْلَ إذا لم يتم جاز أَنْ يُقال إِنَّه صلاها على المِثلين، وهذا واسع في اللُّغة بلا نكير‏.‏

والحاصل‏:‏ أَنَّ جبريل عليه السَّلام إنَّما نَزَل لبيان الأوقاتِ التي ينبغي أَنْ يُصلَّى فيها تقريبًا، ولم يَرِد التحديد أصلا، وإنَّما هو من باب التَّفَقُّه فمنهم مَنْ جَعَلَ وقتَ الظُّهْر إلى المِثل نظرًا إلى أحاديث التعجيل، ومنهم مَنْ جَعَلَه إلى المِثل وزيادة تارة وأُخْرَى إلى المِثلين نظَرًا إلى أحاديث التأخِير، ثُمَّ أَرَاد كلٌّ منهم أَنْ يجعلَه منصوصًا، فآل أمرُهم إلى ما رأيت مِنَ النِّضَال فصارت الحربُ سجالا‏.‏

وهكذا أقولُ بالاشتراك بين المَغْرِبِ والعشاء، ففي المغرِبِ أيضًا روايتان عن الإِمام‏.‏ الأولى‏:‏ أنَّها إلى الشفقِ الأبيضِ، قالوا‏:‏ إنَّه ظاهر الرواية‏.‏ والثانية‏:‏ أنَّها إلى الأحمر‏.‏

قلتُ‏:‏ الأحمر، وقتٌ مختصٌ بالمغرب، وما بعدَ الأبيضِ وقتٌ مختصٌ بالعشاء، والأبيضُ يصلحُ لهما، والمطلوبُ هو الفاصلة، وترتفعُ تلك المطلوبية في السفرِ والمرض، فيجوزُ الجمعُ فيه كالجمع بين الظُّهرين في المِثل الثاني، وأظنُّ أَنَّ البخاري لم يَذْهَب إلى الجمعِ الوقتي كما اختاره الشافعية، وإليه تومىء الأحاديث لتعرضها إلى التأخيرِ والتعجيل، وهما أَصْدَق وأفيد على نظرِ الحنفيةِ، وإنْ صَدَقا على نظرهم أيضًا، لكِن ليس فيه لطف، لأنَّه إذا كان الجمعُ باعتبار الوقتِ فأي بحثٍ من التأخير والتعجيل، وأي حاجة إلى ذكرِهما‏؟‏ ويكفي له ذِكر الجمع فقط

أمَّا على طورنا، ففيه بيان معنى الجمع، لأنَّه لا جمع وقتًا وإنَّما هو جمع بحسب تأخير هذه وتقديم تلك، فذِكر التعجيل والتأخير مما لا بُدَّ منه، وسيجيء تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ قول الله تعالى ‏{‏مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏(‏الروم‏:‏ 31‏)‏

واتقوه أي اخشَوا منه، ومعناه اتخذوه تُقاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏)‏ وهذا طَرْد وعكس من صنائع البديع، ومِنْ ههنا قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم- عند مُسْلِم- «إِنَّ بين الرجلِ وبين الشِّرك والكفر ترك الصلاة»‏.‏ أو كما قال‏:‏ قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى‏:‏ إِنَّ تَرْكَ العِبادة اتباعًا للهوى أيضًا، نوعٌ من الشرك؛ ولذا قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

باب‏:‏ البَيعَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلاة

والأصلُ أَنَّ العربَ كانوا يُصافحون عند البيع، فالبيعة بمعنى البيع إلا أنَّه انسلخ عن معناهُ، وصار يُستعمل بمعنى المعاهدة مطلقًا، وهي كما تكون على الإِسلام تكونُ على أمورٍ جزئية أيضًا؛ فالبيعةُ على إقامةِ الصَّلاةِ لمزيد التأكيد‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةُ كَفَّارَة

الفتنة- نكهاركي جيز- وهو كل شيءٍ يَحصُل به التمييز بين الأمرين‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «إِنَّ هذه الأُمَّة أكثرهم فتنة»‏.‏ وكنتُ أتفكر فيه أنَّه لِمَ ذاك‏؟‏ حتى تبين لي أَنَّ الأُمم السابقة أُهْلِكَت بعضُها بالإِغْرَاق وأُخْرَى بالقَذْفِ وأنواعٍ من العذاب، وهذه الأُمَّة لمَّا قُدِّر بقاؤها ابتُلِيَت بالفتن للتمْيِيز بين المُخلِص والمُنَافِق، فكان لا بُدَّ منها قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 129‏)‏، ثُمَّ إنَّ المنافقين كانوا معروفين في عهدِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم يَعرِفُهم أكثرُ الصحابةِ رضي الله عنهم بأسمائِهم وأعيانِهم؛ إلا أَنَّ إقامة الشَّهادة عليهم واستباحة بيضتِهِم كان خلافُ المصلحةِ فأغمض عنهم لذلك، فانْدَفَعَ ما يختلجُ في الصُّدورِ‏.‏

525- قوله‏:‏ ‏(‏فتنةُ الرَّجُلِ في أهلِهِ ومالهِ‏)‏ يعني أَنَّ الرَّجُلَ يَضْطَرُّ إلى إدخالِ النقائص في دينه من جهةِ هؤلاء؛ وإنَّما أموالُكم وأولادُكم فتنة‏.‏

525- قوله‏:‏ ‏(‏يكفرها الصلاة والصيام‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ فالصَّلاة والصَّوم عبادتان حقيقةً، ومكفِّرتان تبعًا‏.‏

شرح قوله‏:‏ الصوم لي وأنا أجزي بهوتحقيق أَنَّ الصومُ يُؤخذُ في كفارة أم لا‏؟‏

واعلم أَنَّهم ذَكَروا لقوله صلى الله عليه وسلّم «الصومُ لي‏.‏‏.‏‏.‏ الخ» شروحًا عديدة استوعبها الحافظُ رحمه الله تعالى في «الفتح»، ولم يَتَعرض أحدٌ إلى زيادة فيه أَخْرجَها البخاري وأحمد في «مسنده»؛ ولمَّا كانت الجملة الأخيرة واقعة موقع الاستثناء لا يجوز الخوض في معناه قبل تعيين المُسْتَثنى، فلا بُدَّ علينا أَنْ نأتيك بتمام سياقه؛ ثم لنبحث عن معناه‏.‏

أخرجَ البخاري في باب ذِكْر النَّبي صلى الله عليه وسلّم ورواية عن رَبِّه‏:‏ «لكل عملٍ كفارة والصومُ لي وأنا أَجْزِي به» وفي «مسند أحمد» «كل عمل كفارة‏.‏‏.‏‏.‏ الخ» والفرقُ بين اللفظينِ أَنَّ العملَ على لفظ البخاري من السيئات وكَفَّارته من الحسنات؛ والمعنى أَنَّ لكلِّ سيئةٍ من بني آدم كفَّارة من حسنة؛ وعلى لفظ «المُسْنَد» من الحسناتِ؛ فتكون كفارة للسيئات‏.‏ والمعنى كلُّ حسنة تكونُ كفارة للسيئات، والجملة‏:‏ «والصوم لي» على كِلا التقديرين وَقَع مَوقِع الاستثناءِ، يعني إلا الصومَ فإِنَّه لي وأنَا أجزي به‏.‏

والصواب عندي ما في «المُسْنَد» فصار الحديثُ هكذا‏:‏ كل عمل كَفَّارة والصومُ لي وأنا أجزي به أي إلا الصوم فإِنَّه لي وأنا أجزي به كما هو في سياق آخر عندَهُ بلفظ الاستثناء هكذا‏:‏ كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصوم فإِنَّه لي‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ فَدَلَّ الحديث على أَنَّ الحسنات كُلَّها تُؤْخَذ في الكفَّارات بخلافِ الصومِ فإِنَّه لا يُؤخذ به فيها، ولكِنَّه يُجزَى به لا محالَة، لكونِه له تعالى فهذه خاصةٌ للصوم دون سائر العبادات‏.‏

ويخالفه ما أخرجه الترمذي في باب شَأْنِ الحساب والقِصاص عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ «المُفْلِس مِنْ أمتي مَنْ يأتي يومَ القِيامة بصَلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ويأتي قد شَتَم هذا، وقَذَف هذا، وأَكَل مال هذا، وَسَفَك دم هذا، وضَرَب هذا، فيقعُدُ فيَقْتَص هذا مِنْ حسناتِه، وهذا من حسناته، فإِن فَنِيَت حسناتُه قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ ما عليه من الخطايا أُخِذ من خطايَاهم فَطُرِحَ عليه ثم طُرِح في النار» انتهى‏.‏ وهذا صريحٌ في أَنَّ الصيامَ أيضًا يُؤْخَذ في الكفارات كما تُؤْخَذ سائر العبادات‏.‏

والوجه فيه عندي‏:‏ أَنَّ الرَّاوي خَلَطَ فيه بين السِّيَاقينِ، والصحيحُ ما في «الموطأ» لمالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قال‏:‏ «والذي نفسِي بيده لَخَلُوفِ فَمِ الصَّائمِ أطيبُ عند الله مِنْ رِيح المِسْك إنَّما يَذر شهوتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِنْ أَجْلي فالصيامُ لي وأنا أجزي به؛ كلُّ حسنةٍ بعشرِ أمثالها إلى سبعمائةِ ضَعف إلا الصيام فهو لي وأَنَا أجزي به» انتهى‏.‏ فدلَّ على أَنَّ الخصوصية في الصَّوم أَنَّهُ يَدَع فيه شهوتَه لأجلِه تعالى، وهو معنى قوله‏:‏ «الصومُ لي»‏.‏ كما تُشعر به الفاء بعد قوله‏:‏ «إنَّما يَذر شهوتَهُ» ومعنى قوله‏:‏ «وأنا أجزي به»، أَنَّ أجره غير محدود، يعلمُه الله تعالى، بخلاف أجورِ سائرِ العبادات، فإِنَّها تضعف إلى سبع مئة ضعف‏.‏ وهذا هو أَصْوَبُ الشُّروح‏.‏ وما ذَكَرُوه كلها احتمالات، وما أَخرجه البخاري غيره الراوي فكان الاستثناء في الأَصلِ مِنْ تضعيفِ الثَّواب، فَنَقَلَهُ إلى تكفير العمل، فأوهم أَنَّ الصيامَ لا يُؤْخَذ في الكفَّارَة؛ وعلى هذا ليس فيه ما يَدلُّ على خلافِ حديث الترمذي أَنَّ الصومَ لا يُؤْخَذ في الكفَّارة وإنَّما خفي مُراد حديثِ البخاري لاختلالٍ في سِيَاقِه كما علمت‏.‏

والحاصل‏:‏ أَنَّ الحديثَ جاءَ على أربع‏:‏

سياق الأول‏:‏ ما في البخاري‏:‏ «لكل عملٍ كفارة»؛ والثاني‏:‏ ما في المسند «كل عمل كفارة»‏.‏ والثالث‏:‏ «كل عمل ابن آدم له»‏.‏ والرابع‏:‏ ما في «الموطأ» «كلُّ حسنةٍ بعشرٍ أمثالِها، إلا الصيام‏.‏‏.‏‏.‏ الخ» وهذه القطعيات كُلُّها صحيحة عندي، ولعلَّه مِنْ بابِ حفظِهِ كل ما لم يحفظ الآخر، لا مِنْ بابِ الرِّواية بالمعنى، وأَحقُّ السِياق‏:‏ كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصوم، ووجه كونِه له، ما يَظْهَر مِنْ رِواية «الموطأ» وهو أَنَّ فيه تَرْك الأكلِ، والشربِ، والجماعِ، وليس ذلك في سائر العباداتِ غير الصوم، فإنَّ الصومَ عبارةٌ عن نفس تَرْكِ هذه الأشياء قصدًا، بخلافِ الصَّلاةِ والحج ونحوهِما مِنَ العبادات؛ فإنَّها ليس فيها تَفُويت الأكلِ، والشربِ، فإِنَّ الرَّجُل يأكلُ ثُمَّ يُصلِّي، ويُصَلِّي ثُمَّ يأكل؛ فليست الصَّلاةُ اسمًا لترك هذه الأشياء، وإنْ تَعَطَّلَ فيها عن بعض حوائِجه تلك المدة، والله تعالى أعلم‏.‏

525- قوله‏:‏ ‏(‏إذًا لا يُغْلَقَ‏)‏ قال العلامةُ الكَافِيجي إِنَّ «إذن» و«أنْ» الناصبة شيء واحد، وجاز كتابتها بالتنوينِ أو النُّونِ‏.‏

525- قوله‏:‏ ‏(‏بالأغاليط‏)‏ جمع أغلوطة، كلُّ شيء يلقي الناس في الغلط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مِنَ امرأة قُبْلة‏)‏ وروايةُ البخاري تَدُلُّ على أَنَّ آية ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَتِ‏}‏ نزلت في تلك القِصة، وفي عامَّةِ الروايات أنَّها نَزَلت قَبْلَها وإنَّما استشهد بها النَّبي صلى الله عليه وسلّم فيها، ففيه مسامحة عندي‏.‏

ثُمَّ اعلم أَنَّ آيات الكفَّارة ثلاث ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 48‏)‏‏.‏ والثانية‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَتِكُمْ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 31‏)‏‏.‏ والثالثة هذه‏.‏

ففي الأولى بيانٌ لكونِ مَغْفِرَةِ الذُّنُوب كُلِّها تَحْتَ المشيئةِ، فإِنْ شَاءَ غَفَرَها، وإنْ شاء عاقب عليها، وفي الثانية ذِكْرٌ لإِنعامه، وإخبَارٌ بِفَضْلِهِ، ووعدٌ منه بِمَغْفِرَة السيئات لِمن اجتنب الكبائر، وليس في التعليق ما يُفيد المعتزلة كما وهم، فإِنَّها سِيقَتْ في الوعدِ دون الإِمكانِ، أَمَّا الإِمكانُ فقد عُلِمَ مِنَ النَّص الأَوَّل‏.‏

فَعُلِمَ أَنَّ مَغْفِرَةَ الذُنوبِ كُلُّها ممكِنة ولكنَّها تحت مشيئتِه تعالى؛ وأَمَّا الوعد ففي صورة الاجتنابِ عَنِ الكبائِر لا أَنَّها مستحيلة عند عَدَمِه؛ وأَمَّا في الثالِثَةِ فتنبيه على سبب خاص لها وهو أَنَّ الحسناتِ أَحَد أسبابِ المَغْفِرَةِ للسيئات‏.‏ وفي قوله‏:‏ إلا اللمم أيضًا إشارة إلى الوعد بمَغْفِرَةِ الصَّغَائر، فهذا نوعٌ آخر، ووعدٌ آخر، وراجع لِكَفَّارَة الصَّغائِر والكبائِر «عقيدة السَّفَارِيني»، ثُمَّ إنَّ في الزيلعي «شرح الكنز» أَنَّ القُبلة صغيرةٌ، قلت‏:‏ ولي فيه تردد‏.‏